حكاية فنان | حامد ندا .. السيريالي المأساوي! 

 حامد ندا
حامد ندا

-    تتلمذ على يد أحمد صبرى ويوسف كامل وبيكار
-    أقام حلقة زار فى كلية الفنون الجميلة!
-    شارك فى إحتفالية فرنسا بدخول نابليون إلى مصر
-    أعماله صدمت النقاد فى البداية .. واعترفوا بعد ذلك بقيمته

مرت أمس 27 مايو الذكرى الثالثة والثلاثون على رحيل أحد رموز السريالية المصرية.. الفنان الكبير حامد ندا (1924-1990) الذى ظل مهمومًا طوال تاريخه بإلقاء الضوء على تقاليدنا المصرية .. ومن ثم الإبحار فى عالمها، أبدع العديد من اللوحات التى تسبح بنا فى عالم مجهول ملىء بالسحر والشعوذة والخرافات، تأثر برائد المدرسة السيريالية الفنان الأسبانى سلفادور دالى..، فقدم لنا أعمالًا غير تقليدية عبرت عن شخصيته غير المألوفة فى هذا الوقت، فأصاب المهتمين والنقاد بصدمة تشكيلية سرعان ما أستفاقوا منها على رائد جديد صاحب فكر ومدرسة خاصة تخرج منها تلاميذ وأساتذة فيما بعد .. 
حامد ندا.. أحد نجوم الفن المعاصر وأحد رموز مدرسة السيريالية التى تخصصت فى تسليط الضوء من خلال أعماله على الفقراء والأحياء الشعبية ورموزها وتقاليدها.
حلقة زار
ولد حامد ندا فى 19 نوفمبر 1924 بحى القلعة أعرق أحياء قاهرة المعز، تشكلت طفولته فى هذا الحى القديم الساحر ولعبت نشأته وسط هذه الأجواء الصاخبة البسيطة دورًا كبيرًا فى تكوين شخصيته ووجدانه الفنى، فقد عاش طفولته فى عالم خاص تحيط به الأسرار والتقاليد الخرافية والدجل، عالم مزدحم بالوجوه المكافحة الفقيرة، حركة الأطفال وصوت الباعة الجائلون يرن صداها فى أرجاء المكان، فكانت فلسفته التشكيلية التى انعكست فى أعماله وكأنه يعيش أحلام اليقظة..، ورغم أنه تتلمذ فى كلية الفنون الجميلة على يد الكلاسيكيين "أحمد صبرى ويوسف كامل وحسين بيكار"..  إلا أنه نجح فى شق طريقه ورسم فى مشروع التخرج "حلقة الزار"، حيث أحضر لمبنى الكلية مجموعة خاصة لإقامة حلقة زار حقيقية فى أتيليه قسم التصوير، وبالفعل جسد بأدواته رقصات الزار المجنونة على صوت الدفوف وحركات المجموعة الصاخبة الهستيرية، وحصل على تقدير إمتياز فى مشروعه، وتم تعيينه عام 1951 مدرسًا بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة بالأسكندرية عند تأسيسها عام 1957، ثم سافر فى بعثة إلى أسبانيا لدراسة فن التصوير الجدارى وحصل على دبلوم أكاديمية سان فرناندو للفنون الجميلة، ليلتحق بعد عودته عام 1962 للعمل بكلية الفنون الجميلة بالقاهرة ويتولى رئاسة قسم التصوير..واستمر فى العمل بعد سن المعاش أستاذًا متفرغًا حتى رحيله.
داخل المقهى
انضم عقب تخرجه للجمعية الأدبية المصرية التى كانت تضم أسماءًا كبيرة بين محريريها مثل د.طه حسين، د.سهير القلماوى، والشاعر صلاح عبد الصبور، وتأثر حامد بهذه الفترة وبدأ يهتم بمساحات الفراغ فى لوحاته، وكذلك المبالغة فى رسم أعضاء جسم الإنسان متأثرًا بالتراث المصرى القديم والرسوم الحائطية الفرعونية، فرسم فى مرحلة الأربعينات أعمالًا سلط فيها الضوء على سلبيات المجتمع وأبطاله فرسم لوحات "القبقاب"،"الدراويش" عام 1947، و"العصافير"، و"داخل المقهى"عام 1948..، ثم رسم بعد ذلك لوحات "الفتاة والسمك"، و"حديث المحبين"، "الحزن والفرح" عام 1955، "أنشودة الصباح" عام 1956، "الحصان الأزرق" عام 1958، "الليل والنهار" عام 1960، ثم بدأ بعد ذلك مرحلة جديدة حيث استعان ببعض العناصر فى أعماله مثل القط والسلحفاة، والمركب والشمس والقمر، وكانت بداياتها فى مرحلة الستينيات واستمرت معه حتى أواخر السبعينيات. 


العنقاء
بعد ذلك عادت أعمال ندا السيريالية للظهور، فبدأ يرسم لوحاته كأنها أحلام أو خرافات بعيدة عن الواقع، فجسد الإنسان فى شكل حيوان، وكذلك عادت التلميحات الجنسية للظهور من جديد فى العديد من لوحاته، وبدأت الرموز تأخذ بعدًا مخالفًا فى أعماله، فنجد مثلًا أن وجود الديك كرمز لا ليعبر عن الفداء والقوة والتضحية كما كان فى أعمال سابقة له، إنما رسمه فى تعبيرًا مغايرًا كرمز للذكورة والإخصاب، وكذلك الزير الذى كان رمزًا للإرتواء صار يرمز إلى أسراره الكامنة المدفونة  بداخله، وكانت الخرافات تلازمه فى الكثير من أعماله، فبعد أن كان يرسم القط والديك ومصباح الكيروسين والبرص والسحلية، والسمكة والثور، نجده كان يتخيل كائنات ويجسدها فى أعماله مثل الطائر الذى حير النقاد فأطلقوا عليه "العنقاء" وهو فى الحقيقة طائر لا وجود له.
العمل فى الحقل
شارك حامد فى إحتفالية فرنسا بمرور 150 سنة على العلاقات المصرية الفرنسية بدخول نابليون بونابرت إلى مصرعام 1798 واتخذ الاحتفال شكلًا ثقافيًا بالدعوة لإقامة معرض مصرى فى باريس عام 1947، ووقع الاختيار على مجموعة من الفنانين المصريين للمشاركة فى المعرض مثل راغب عياد، ومحمد ناجى، ومحمود سعيد ويوسف كامل.
نال ندا العديد من الجوائز طوال مشواره فى مصر وخارجها، فقد حصل على جائزة الدولة التشجيعية عام 1962 عن لوحته "العمل فى الحقل"، ثم جائزة الدولة التقديرية فى الفنون عام 1991 بعد وفاته، وكان مرشحًا لها قبل رحيله.


نساء ندا
يقول صبحى الشارونى فى كتابه "حامد ندا نجم الفن المعاصر" .. أن حامد تزوج ثلاث مرات، كانت الأولى عام 1949 وهو طالب بالكلية، وكان زواجه الأخير من الفنانة هند شلبى التى حققت لحياته الاستقرار وبددّت شكوكه فى ضرورة ملازمة الهموم والأحزان للفنان، وتأثرت ألوانه بهذه الحياة الهنية فذابت ألوانه رقة وأشكاله رشاقة وتكويناته عذوبة، وبالفعل عندما نتعمق فى لوحات حامد ندا، نجد أن النساء تظهر فى معظم أعماله وكان يميزها بالطول الفارع، نحيلات الخصور، كبيرات الأرداف، لكنها أشكالًا مسطحة فقط، تحتل مساحة كبيرة من حيز اللوحة دون أن يشعرك بحجمها ونسبها التشريحية..، ووبالنظر والتأمل فى أعماله نجد أن الرموز الجنسية تحتل حيزًا فى أفكاره السيريالية, وهذا يعكس البعد الغريزى عنده، لكن الشارونى يفاجأنا فى كتابه: أن الغريزة اختلفت عند حامد ندا بعد أن ضعف سمعه، فبعد أن كنا نسمع في لوحاته الأولى صياح الديك ومواء القطة، تطورت الأصوات لتخرج من امرأة تغني في الميكروفون، أو جواد يسابق الريح، ثم بعد ذلك من الفونوغراف أو البيانولا ذات الصوت الصاخب، ثم آلات النفخ وهي تجلجل في فراغ اللوحة.


فقد الوعى
 لقد أصبح الصوت المرتفع النبرة الذي يوقظ كل عناصر اللوحة هو المسيطر على أعماله كلما اقترب من الصمم التام.. وعلى الرغم من هذا الصمم التام الذي أصاب الفنان فإنه اتجه إلى غرفة التليفون – لسبب لا نعرفه - مساء 25 ابريل عام 1990 عندما انقطع التيار الكهربائي فجأة عن مصر كلها، وكان الفنان في مرسمه بمبنى وكالة الغوري بحي الأزهر، وهناك انكفأ على وجهه حيث لم ينتبه إلى المستوى الحجري المرتفع أمام هذه الغرفة، فسقط فاقدًا وعيه بعد أن شجت رأسه، وقضى في المستشفى حوالي 30 يومًا، ثم أسلم الروح يوم 27 مايوعام 1990.